سلطة الخطاب

done-5

   أفترض أن إنتاج الخطاب في كل مجتمع٬هو في نفس الوقت إنتاج مراقب ٬ومنتقى ومنظم ومعاد توزيعه من خلال عدد من الإجراءات التي يكون دورها الحد من سلطاته ومخاطره٬التحكم في حدوثه المحتمل وإخفاء ماديته الثقيلة والرهيبة .إننا نعرف طبعا٬ في مجتمع كمجتمعنا٬ إجراءات الاستبعاد. وأكثر هذه الإجراءات بداهة٬ وأكثرها تداولا كذلك هي المنع٬ إننا نعرف جيدا أنه ليس لدينا الحق في أن نقول كل شيء٬ وأننا لا يمكن أن نتحدث عن كل شيء في كل ظرف٬ونعرف أخيرا ألا أحد يمكنه أن يتحدث عن أي شيء كان.هناك الموضوع الذي لا يجوز الحديث عنه ٬وهناك الطقوس الخاصة بكل ظرف٬ وحق الامتياز أو الخصوصية الممنوح للذات المتحدثة :تلك هي لعبة الأنواع الثلاثة من إجراءات المنع التي تتقاطع وتتعاضد أو يعوض بعضها البعض مشكلة سياجا معقدا يتعدل باستمرار٬أشير فقط إلى أن المناطق التي أحكم السياج حولها وتتضاعف حولها الخانات السوداء في أيامنا هذه هي مناطق الجنس والسياسة : وكأن الخطاب بدل أن يكون هذا العنصر الشفاف أو المحايد الذي يجرد فيه الجنس من سلاحه وتكتسب فيه السياسة طابعا سلميا٬ هو أحد المواقع التي تمارس فيها هذه المناطق بعض سلطتها الرهيبة بشكل أفضل. يبدو أن الخطاب في ظاهره شيء بسيط ٬لكن أشكال المنع التي تلحقه تكشف باكرا وبسرعة عن ارتباطه بالرغبة وبالسلطة. وما المستغرب في ذلك مادام الخطاب –وقد أوضح لنا التحليل النفسي ذلك – ليس فقط هو ما يظهر(أو يخفي الرغبة)٬لكنه أيضا هو موضوع الرغبة٬ ومادام الخطاب – والتاريخ مافتئ يعلمنا ذلك – ليس فقط هو ما يترجم الصراعات أو أنظمة السيطرة٬لكنه هو ما نصارع من أجله وما نصارع به وهو السلطة التي نحاول الاستيلاء عليها.

ميشيل فوكو – نظام الخطاب 

 

 

البيولوجيا السياسية

done-4

 

يصبح الحارس الجالس في البرج الموضوع في وسط البناية رمزا لعين الرقيب الدائمة الحضور التي ترى كل شيء وقت ما تريد، بينما لا يراها أحد. إذ أن مبدأ البناء الحلزوني أو الدائري مبدأ عام نجده في مؤسسات عديدة، تشترك كلها في الجمع بين العديد من الأفراد داخلها: (السجن، المدرسة، المعمل، المستشفى  .

والمهم هو أن البناء الحلزوني أو الدائري الذي تم اعتماده وإقراره مع المجتمع الصناعي الوليد، يعد بمثابة رمز لمجتمع المراقبة الذي بدأ باختراع مؤسسة الشرطة تحت لويس الرابع عشر، فالشرطة هي الأخ التوأم للبناء الحلزوني.

وهي تؤمن النظافة والسهر على أمن المدينة وتسهر على إمداداتها من المؤن والمحاصيل والمواد. فالشرطة بهذا المعنى: «تشرف على مجالات الكائن الحي»، وكان أول قانون منظم للشرطة إبان ظهوره سنة 1705 يحتوي في بنوده على مواد تنظم بيع الحبوب..الخ.

أن مصطلح الأحيائيات السياسية تعني هذا التحول الذي طرأ على وظيفة الدولة التي لم تعد تعرف نفسها فحسب بوصفها القيّمة على القانون، ولم تعد تنحصر وظيفتها في الدفاع عن المجال الترابي كدولة لها سيادة إدارية، بل امتدت إلى تنظيم حياة سكانها وتدبير شؤونهم الثقافية والتجارية والاقتصادية والاجتماعية، مثلها مثل الراعي الذي يحمي قطيعه بتنظيم مواعيد نومهم وأكلهم و…. فهي بهذا المعنى لا تحمل العصا فحسب، بل الجزرة أيضا، لأن الشرطي تقمص تقريبا في صورته المهيبة صورة دور رجل الدين في مراقبة أجساد هذه الكائنات الحية، إذ أنه بداخل هذا الشرطي توجد قلنسوة رجل دين أخذت زيا رسميا جديدا.

وهو ما يلتفت إليه كثيرا فوكو، لأن عين السلطة التي لا تنام تتوجه إلى التحكم في فضاء الأفراد القريب منه أو البعيد، حيث هي حاضرة في كل مكان: المدينة والقرية الحي والأسواق، المدرسة، الشارع، المستشفى، وهلم جرا. وهو ما يستدعي ويقتضي تطوير تقنيات مراقبة خاصة بكل هذه الفضاءات، الأمر الذي يعني أن مجتمع السوق الرأسمالي هو في واقع الحال مجتمع مراقبة بامتياز. إذ بحلول الهندسة العمرانية الجديدة المتمثلة في البناءات الحلزونية أو الدائرية (Panoptique) في القرن التاسع عشر، أصبحت المراقبة الاجتماعية غير مرتبطة بحق الحاكم المطلق في نزع الحياة، بل مقترنة بمؤسسة تحافظ على الحياة المدنية. وفي هذا كناية عن أن الأفراد في هذا العصر خولوا للمؤسسات حق تدبير حياتهم ذاتيا، كما تدبير الجماعات بواسطة معايير وقوانين ونظم.

ومن ثم أصبحت عمليات التعذيب وقطع الرؤوس وصلب الأجساد في الساحات العامة عملية غير مقبولة ويشمئز منها عموم الشعب والرأي العام، حيث تم استبدال قطع الرؤوس والتمثيل بالأجساد وحرقها أو التمثيل بها بآليات جديدة تتداخل فيها السياسة والبيولوجيا، الأولى تتحكم في المجال العام والثانية تتحكم في الأجساد.

ومن ثم أصبحت السياسة الأحيائية –الحيوية- هي الوسيلة الجديدة الفعالة للمراقبة الاجتماعية الحديثة وتنظيمها، بل إن مجمل هذه التقنيات الجديدة موضوعة لغايات وظيفية محددة منذ أن توارت مشاهد التعذيب في الساحات العمومية. علاوة على أن سمات المراقبة الضبطية في المجتمع الحديث تجلت في بناء أشكال هندسية دائرية محاطة بأسوار وعبر شبكات تمتد طولا وعرضا في المجتمع، مدعية أنها لا تضطلع بوظيفة غير وظيفة تعليم الناس إصلاح أخطائهم وسلوكهم وطبائعهم ووظيفة تهذيبهم وحمايتهم، حتى يتم تحقيق فضاء اجتماعي منسجم.

ومن بين أهم الوظائف التي تم تحديدها لهذه المؤسسات، وظيفتان أساسيتان:
تنحصر الوظيفة الأولى في وضع «استعمال للزمن» بغية مراقبة غدو ورواح الأفراد، بينما: تروم الثانية مراقبة أجساد الأفراد، مراقبة دقيقة وكاملة.

وهو ما يمكن الاستدلال عليه بوضع توقيت فتح الأسواق والمدارس والمستشفيات والثكنات والإدارات العامة لأبوابها ومواقيت إقفالها، في المقابل أصبحت الوظيفة الثانية تهتم بالجسد من خلال الصحة ورعاية النسل وتنظيم شؤون العمران والنظافة ومكافحة الأوبئة والحد من الوفيات المبكرة للأطفال وحملات التلقيح

ذلك أن الغاية من استعمال آليات السياسة الحيوية –الأحيائية- إحكام نوع جديد من المراقبة الاجتماعية على المجتمع الصناعي الوليد، حيث يستعرض ميشيل فوكو مختلف الصيغ والنماذج التي نظمت الحياة الاجتماعية عبر العصور، واختلاف كل واحدة منها عن الأخرى. فآلية المراقبة الاجتماعية في «المجتمعات الإقطاعية» كانت تتم عبر امتلاك الحاكم المطلق رقاب البلاد والعباد واستعماله لهذا الحق بشكل مطلق في فرض هيبة السلطة (يسمّي فوكو هذه المجتمعات « مجتمعات سيادية «  .

ثم تلتها حقبة تختلف عنها، تم تسميتها بـ «مجتمعات الضبط» التي طبعت ميلاد العهد الصناعي وبداية الرأسمالية، والتي تختلف بدورها عمّا تلاها من بناء «مجتمعات الرقابة» في الحقبة المعاصرة.

نصوص

michel-foucault-7

هنالك اتجاه في الفكر يعتقد أن العالم هو أكثر من أفلاك من النصوص ، و أن بعض النظريات النصية تتجاهل حقيقة أن الخطاب متورط مع السلطة  .
إنهم يختزلون القوى السياسية و الاقتصادية ، و آليات التحكم الإيديولوجية و الاجتماعية . حينما يبدو أن هتلر أو ستالين يسيطر على أمة بكاملها من خلال الدعاية و من العبث أن تتعامل مع ذلك ببساطة ظاهرة . من الواضح أن السلطة الحقيقية تتم ممارستها عبر الخطاب ، و إن تلك السلطة ذات أثر حقيقي.
الفيلسوف الألماني نيتشة قال إن الشعب يقرر أولا ماذا يريد ثم يطابق بين الحقائق و الأهداف : ” النتيجة إن الإنسان لا يرى في الأشياء إلا ما استورده هو بالذات إليها “.
كل المعارف هي تعبير عن ( الرغبة بالسلطة ). هذا يعني أننا عاجزون عن التكلم عن أية حقائق مطلقة أو أي معرفة موضوعية . إن الشعب يتعرف على أفكار معينة أو نظرية علمية على أنها ( حقيقة ) فقط إذا توافقت مع توصيفات للحقائق تم وضعها من قبل السلطات الثقافية أو السياسية لهذه الأفكار او النظريات ، أو بواسطة أعضاء من النخبة الحاكمة ، أو من قبل الإيديولوجيات المعرفية الصاعدة.

الخطاب هو مجمل التشكيلة اللغوية من ناحية المبنى والمعنى . و السلطة هي التي تعطيه فحواه الفكري . فالإمبريالية كلمة بيضاء في النظام الرأسمالي وتعني الدولة الكبرى أو الإمبراطورية , ولكنها في النظام الآخر تعني الشر .. و كلمة الإستعمار هي من البناء والإعمار ,  ولكن اتجاه ميزان قوى السلطات هو الذي يبدل الإتجاه الفكري

المنحرفين و المهمشين

foucault-4

يخلص الفيلسوف ميشيل فوكو إلى اعتبار المنحرفين والمهمشين والمجرمين ودعاة العنف بمثابة صورة باطنية كفيلة بتصوير لا وعى المجتمع وأعراضه الثاوية، فهذا اللاوعى الذى يتم كبته، سرعان ما يتفجر فى وجه من قيّدوه ليغتالوه فى حريته ويرهبهم كما أرهبوه، إذ لا يمكن اعتبار المنحرفين والمرضى والمهمشين والمجرمين بهذا المعنى محض ظواهر اجتماعية فحسب، بل هم حقائق اجتماعية وإنسانية للمجتمع نفسه بامتياز، كما أن إنزال العقاب بهم، لن يستأصل هذه الظواهر بل ينذر بانفلاتها وانتقال العدوى، عدوى الرد والرد المضاد.

يبقى من الصعب جدا حصر مفهوم “الرقابة” فى أعمال فوكو، فالمصطلح غنى بتعدد استعمالاته وتأويلاته، ويرى فوكو أن المجتمعات التى تشتغل بآليات رقابية أو بسلطة الضبط تستبطن هذا المصطلح بطريقة تجعل منه مرتبطا بالضبط بجميع مجالاتها الحياتية، وينظر فوكو نظرة متميزة عن سائر نظريات الضبط الاجتماعية التى حاولت تبرير وظيفة المراقبة الاجتماعية من خلال وظيفتين أساسيتين:

الوظيفة الأولى تختص بضرورة مراقبة المجتمع للحد من ظواهر الانحراف فيه أو التمرد عليه.

بينما الثانية ترى المراقبة كصورة من صور الصراع فى المجتمع، ومن ثم تغدو وظيفتها مختتصة بـاستعمال المراقبة لفائدة جماعة معينة ضد أخرى.

غير أن فوكو يرفض هذين التفسيرين الوظيفيين، نظرا لأن سقف التبرير المقدم يظل أخلاقيا بالأساس، وبالتالى يحول دون الوصول إلى رؤية شاملة لجميع ظواهر المراقبة الاجتماعية وأشكالها، لذلك تراه يشدد على ضرورة إصلاح هذه النظرة الوظيفية الضيقة لكى نتمكن من الإلمام بجميع وظائف المراقبة فى المجتمع وما يحيط بها من تعقيدات.

ومصطلح الأحيائيات السياسية تعنى التحول الذى طرأ على وظيفة الدولة التى لم تعد تعرف نفسها فحسب بوصفها القيّمة على القانون، ولم تعد تنحصر وظيفتها فى الدفاع عن المجال الترابى كدولة لها سيادة إدارية، بل امتدت إلى تنظيم حياة سكانها وتدبير شؤونهم الثقافية والتجارية والاقتصادية والاجتماعية، مثلها مثل الراعى الذى يحمى قطيعه بتنظيم مواعيد نومهم وأكلهم، الخ، فهى بهذا المعنى لا تحمل العصا فحسب، بل الجزرة أيضا، لأن الشرطى تقمص تقريبا فى صورته المهيبة صورة دور رجل الدين فى مراقبة أجساد هذه الكائنات الحية.

وهو ما يلتفت إليه كثيرا فوكو، لأن عين السلطة التى لا تنام تتوجه إلى التحكم فى فضاء الأفراد القريب منه أو البعيد، وهو ما يستدعى ويقتضى تطوير تقنيات مراقبة خاصة بكل الفضاءات المحيطة، الأمر الذى يعنى أن مجتمع السوق الرأسمالى هو فى واقع الحال مجتمع مراقبة بامتياز.

ماهية السلطة

michel foucault

مازلنا نجهل ماهية السلطة. أفلم ننتظر حتى القرن التاسع عشر لنعرف ماهية الاستغلال ؟ . ولكن لعلنا مازلنا لا نعرف بعد ماهية السلطة. ولعل ماركس و فرويد لا يكفيان لمساعدتنا في معرفة هذا الشيء المغرق في الإلغاز، هذا الشيء الذي نراه ولا نراه ، الظاهر الخفى، الذي يعترضنا حيثما ولينا وجهنا، والذي نسميه السلطة . فليست نظرية الدولة ولا التحليل التقليدي لأجهزة الدولة بقادرين – دونما شك – على استنفاد مجال ممارسة السلطة وعملها، وإنها لأشد ما يجهله الناس اليوم : فمن يمارس السلطة ؟ وأين يمارسها ؟ فقد صرنا اليوم نعرف على وجه التقريب من يستغل ، وأين يمضي الربح ، والأيدي التي يمرّ بها وأين يستثمر من جديد ، أما السلطة (…) فنحن نعلم حق العلم أن ليس الحكام هم الذين بيدهم السلطة. غير أن فكرة ” الطبقة الحاكمة ” فكرة غير واضحة تمام الوضوح ولا هي ممحصة غاية التمحيص . ” فالسيطرة ” و” التسيير ” و” الحكم ” و ” المجموعة الحاكمة ” و” جهاز الدولة ” إلخ … جملة من الأفكار تحتاج إلى التحليل . ثم إنه ينبغي أيضا أن نعرف إلى أي مدى يمكن ممارسة السلطة وما هي الوسائط في ذلك وأي المنظمات ، الدقيقة غالبا، في تراتبها، وفي رقابتها، وفي حراستها، وفي موانعها وفي ضغوطها تمارس السلطة. فالسلطة تمارس حيثما يكون ثمة سلطة. فلا أحد – في واقع الأمور- يمتلكها، ومع ذلك ، فهي تمارس دوما في اتجاه معين ، فيكون البعض من جانب ويكون البعض الآخر من الجانب الآخر، ولسنا نعلم من الذي بالتحديد يملك السلطة ولكننا نعلم من لا يملكها (…)

 

وينتظم كل صراع حول مركز مخصوص من مراكز السلطة ( حول واحد من هذه المراكز الصغيرة التي لا يحصرها العد، والتي قد يكون الواحد منها قائدا صغيرا أو حارس عمارة، أو مدير سجن ، أو قاضيا، أو مسؤولا نقابيا، أو رئيس تحرير جريدة ). ولئن كان تعيين هذه المراكز، وفضحها، و الحديث عنها على رؤوس الملإ من باب الصراع ، فليس ذلك راجع إلى أنه لم يكن أحد على وعي بذلك ، بل أن مرد ذلك إلى أن تناول الحديث في هذا الموضوع ، وكسر الطوق الذي تفرضه شبكة الإعلام المؤسسي ، وتسمية الأشياء بأسمائها، وذكر من فعل ، وما فعل، وتعيين المستهدف ، كل ذلك قلب أول للسلطة وخطوة أولى في طريق صراعات أخرى ضد السلطة (…) فخطاب الصراع لا يقابله اللاشعور، ولكن يقابله الكتمان (…) إنك لتجد سلسلة كاملة من وجوه اللبس متصلة بالمخفي، وبالمكبوت ، وبغير المصرح به ، وهي وجوه تمكن من القيام بتحليل نفسي بخس لما ينبغي أن يكون موضوع صراع . إذ لعل إزاحة الحجاب عن الكتمان أعسر من الكشف عن اللاشعور .

— 

ميشيل فوكو 

« Older entries