يصبح الحارس الجالس في البرج الموضوع في وسط البناية رمزا لعين الرقيب الدائمة الحضور التي ترى كل شيء وقت ما تريد، بينما لا يراها أحد. إذ أن مبدأ البناء الحلزوني أو الدائري مبدأ عام نجده في مؤسسات عديدة، تشترك كلها في الجمع بين العديد من الأفراد داخلها: (السجن، المدرسة، المعمل، المستشفى .
والمهم هو أن البناء الحلزوني أو الدائري الذي تم اعتماده وإقراره مع المجتمع الصناعي الوليد، يعد بمثابة رمز لمجتمع المراقبة الذي بدأ باختراع مؤسسة الشرطة تحت لويس الرابع عشر، فالشرطة هي الأخ التوأم للبناء الحلزوني.
وهي تؤمن النظافة والسهر على أمن المدينة وتسهر على إمداداتها من المؤن والمحاصيل والمواد. فالشرطة بهذا المعنى: «تشرف على مجالات الكائن الحي»، وكان أول قانون منظم للشرطة إبان ظهوره سنة 1705 يحتوي في بنوده على مواد تنظم بيع الحبوب..الخ.
أن مصطلح الأحيائيات السياسية تعني هذا التحول الذي طرأ على وظيفة الدولة التي لم تعد تعرف نفسها فحسب بوصفها القيّمة على القانون، ولم تعد تنحصر وظيفتها في الدفاع عن المجال الترابي كدولة لها سيادة إدارية، بل امتدت إلى تنظيم حياة سكانها وتدبير شؤونهم الثقافية والتجارية والاقتصادية والاجتماعية، مثلها مثل الراعي الذي يحمي قطيعه بتنظيم مواعيد نومهم وأكلهم و…. فهي بهذا المعنى لا تحمل العصا فحسب، بل الجزرة أيضا، لأن الشرطي تقمص تقريبا في صورته المهيبة صورة دور رجل الدين في مراقبة أجساد هذه الكائنات الحية، إذ أنه بداخل هذا الشرطي توجد قلنسوة رجل دين أخذت زيا رسميا جديدا.
وهو ما يلتفت إليه كثيرا فوكو، لأن عين السلطة التي لا تنام تتوجه إلى التحكم في فضاء الأفراد القريب منه أو البعيد، حيث هي حاضرة في كل مكان: المدينة والقرية الحي والأسواق، المدرسة، الشارع، المستشفى، وهلم جرا. وهو ما يستدعي ويقتضي تطوير تقنيات مراقبة خاصة بكل هذه الفضاءات، الأمر الذي يعني أن مجتمع السوق الرأسمالي هو في واقع الحال مجتمع مراقبة بامتياز. إذ بحلول الهندسة العمرانية الجديدة المتمثلة في البناءات الحلزونية أو الدائرية (Panoptique) في القرن التاسع عشر، أصبحت المراقبة الاجتماعية غير مرتبطة بحق الحاكم المطلق في نزع الحياة، بل مقترنة بمؤسسة تحافظ على الحياة المدنية. وفي هذا كناية عن أن الأفراد في هذا العصر خولوا للمؤسسات حق تدبير حياتهم ذاتيا، كما تدبير الجماعات بواسطة معايير وقوانين ونظم.
ومن ثم أصبحت عمليات التعذيب وقطع الرؤوس وصلب الأجساد في الساحات العامة عملية غير مقبولة ويشمئز منها عموم الشعب والرأي العام، حيث تم استبدال قطع الرؤوس والتمثيل بالأجساد وحرقها أو التمثيل بها بآليات جديدة تتداخل فيها السياسة والبيولوجيا، الأولى تتحكم في المجال العام والثانية تتحكم في الأجساد.
ومن ثم أصبحت السياسة الأحيائية –الحيوية- هي الوسيلة الجديدة الفعالة للمراقبة الاجتماعية الحديثة وتنظيمها، بل إن مجمل هذه التقنيات الجديدة موضوعة لغايات وظيفية محددة منذ أن توارت مشاهد التعذيب في الساحات العمومية. علاوة على أن سمات المراقبة الضبطية في المجتمع الحديث تجلت في بناء أشكال هندسية دائرية محاطة بأسوار وعبر شبكات تمتد طولا وعرضا في المجتمع، مدعية أنها لا تضطلع بوظيفة غير وظيفة تعليم الناس إصلاح أخطائهم وسلوكهم وطبائعهم ووظيفة تهذيبهم وحمايتهم، حتى يتم تحقيق فضاء اجتماعي منسجم.
ومن بين أهم الوظائف التي تم تحديدها لهذه المؤسسات، وظيفتان أساسيتان:
تنحصر الوظيفة الأولى في وضع «استعمال للزمن» بغية مراقبة غدو ورواح الأفراد، بينما: تروم الثانية مراقبة أجساد الأفراد، مراقبة دقيقة وكاملة.
وهو ما يمكن الاستدلال عليه بوضع توقيت فتح الأسواق والمدارس والمستشفيات والثكنات والإدارات العامة لأبوابها ومواقيت إقفالها، في المقابل أصبحت الوظيفة الثانية تهتم بالجسد من خلال الصحة ورعاية النسل وتنظيم شؤون العمران والنظافة ومكافحة الأوبئة والحد من الوفيات المبكرة للأطفال وحملات التلقيح…
ذلك أن الغاية من استعمال آليات السياسة الحيوية –الأحيائية- إحكام نوع جديد من المراقبة الاجتماعية على المجتمع الصناعي الوليد، حيث يستعرض ميشيل فوكو مختلف الصيغ والنماذج التي نظمت الحياة الاجتماعية عبر العصور، واختلاف كل واحدة منها عن الأخرى. فآلية المراقبة الاجتماعية في «المجتمعات الإقطاعية» كانت تتم عبر امتلاك الحاكم المطلق رقاب البلاد والعباد واستعماله لهذا الحق بشكل مطلق في فرض هيبة السلطة (يسمّي فوكو هذه المجتمعات « مجتمعات سيادية « .
ثم تلتها حقبة تختلف عنها، تم تسميتها بـ «مجتمعات الضبط» التي طبعت ميلاد العهد الصناعي وبداية الرأسمالية، والتي تختلف بدورها عمّا تلاها من بناء «مجتمعات الرقابة» في الحقبة المعاصرة.